بعد 4 عقود من حظر غنائهن.. جيل جديد من مغنيات إيران لا يخضع لأي شكل من أشكال السلطة
تغني هانا كامكار وعيناها مغلقتان بحفل موسيقي صغير في برلين، بصوت تم قمعه لسنوات في وطنها. فعلى مدى أربعة عقود، حظرت إيران غناء النساء وقمعتهن باستخدام أدوات قضائية وأمنية لإسكاتهن، لكن هانا ونساء أخريات كسرن هذا الحاجز.
هانا كامكار، المغنية والعازفة والممثلة البالغة من العمر 44 عامًا، والتي غادرت إيران منذ فترة واستقرت في ألمانيا، تقول لـ"إيران إنترناشيونال" إن الحفل الذي أقامته في ألمانيا بعد الهجرة كان أشبه باجتماع عائلي: "قبل ذلك، كانت حلاوة الشجاعة ومرافقة أحبائي في الوطن. أما في برلين فكنت هادئة تمامًا".
هذا الهدوء هو ثمرة طريق شاق سلكته هانا والعديد من النساء الإيرانيات لإسماع أصواتهن.
جدير بالذكر أن حظر غناء النساء في إيران هو سياسة متجذرة في هيكل نظام طهران، بدأت منذ ثورة 1979 ولا تزال مستمرة حتى اليوم بأشكال ودرجات مختلفة.
أربعة عقود من القمع
بعد ثورة 1979، أعلنت إيران، استنادًا إلى تفسيرات فقهية، أن غناء النساء أمام الرجال حرام. كان هذا القرار نهاية للأنشطة الرسمية للمغنيات اللواتي كن نشيطات في مجال الموسيقى الإيرانية قبل الثورة.
مع هذه التغيرات، تم حذف أعمال العشرات من المغنيات من الوسائط الرسمية، وتم إقصاء أصواتهن إلى الهامش.
هانا، التي نشأت في عائلة موسيقية، تعرفت على هذه الحقيقة المرة منذ الطفولة: "أثناء مشاهدة الحفل السري لسيمينا بينا، فهمت لأول مرة أن النساء لا يمكنهن الغناء بشكل علني.
أبي شرح لي ذلك، لكنني لم أقتنع بهذا السبب، وأردت أن أغني".
وخلال الثمانينيات، وصل القمع إلى ذروته. اضطرت المغنيات إما إلى ترك مهنتهن أو الهجرة خارج إيران.
وفي التسعينيات، ومع انفتاح نسبي في الأجواء، تمكنت بعض النساء من الغناء في مجموعات كورالية، لكن الغناء الفردي ظل خطًا أحمر.
لم تقبل هانا هذه القيود. تقول: "لم أستسلم أبدًا للغناء الجماعي. إذا فعلت ذلك، كان تمثيلًا؛ كنت أغني بشكل فردي، لكن كان هناك مغنٍ آخر بجانبي يحرك شفتيه". كانت هذه الحيلة واحدة من الطرق التي استخدمتها المغنيات الإيرانيات المبدعات للالتفاف حول الحظر.
المقاومة: كسر جدار الصمت
لم تستسلم النساء الإيرانيات أبدًا لهذا القمع، ففي ديسمبر (كانون الأول) 2024، أقامت برستو أحمدي حفلاً موسيقيًا مع مجموعة من الفنانين في موقع تاريخي بمدينة قم. وتم مشاركة هذا الأداء على "يوتيوب" تحت اسم "الحفل الافتراضي"، حيث ظهرت أحمدي دون حجاب إجباري، ما أثار ردود فعل واسعة وإعجابًا كبيرًا.
وعلى الرغم من أن حفل أحمدي كان عرضًا كاملًا وشجاعًا، فإنها كانت استمرارًا لطريق سلكته مغنيات أخريات من قبل.
واحدة من هؤلاء النساء كانت هانا، التي قررت منذ صغرها أن تسلك طريقها الخاص. بدأت الغناء الفردي عام 2001 مع مسرحية "منتصف النهار الناعس". ومع ذلك، كانت تجربتها الأولى المؤلمة مع قمع النظام قبل ثلاث سنوات من ذلك: "في سن 17-18، شاركت في مسرحية (حلم ليلة منتصف الصيف) كعازفة دف. في إحدى الليالي، اقتحم عناصر أنصار حزب الله القاعة وصرخوا: انزلي، اصمتي. دمروا المسرحية، وتم إيقاف العرض في اليوم التالي".
تصف هانا هذا الحادث بأنه "مأساوي بشكل لا يوصف"، وكان بداية مواجهتها مع القيود والحظر الذي تكرر لاحقًا.
ومع ذلك، لم تقتصر مقاومة هانا على المسرح فقط. ففي عام 2010، غنت بشكل فردي في حفل بهولندا، وفي إيران، توجهت إلى العروض السرية. ذروة هذه الشجاعة كانت في حفل سري في يونيو (حزيران) 2024 في طهران؛ أداء سري تم دون حجاب إجباري، وحضره 150 شخصًا في كل جلسة.
تصف هانا شعور هذا الحفل بأنه "حلو، مثل الشاي والعسل".
كان هذا الحفل مثالًا على جهود النساء لاستعادة أصواتهن داخل البلاد.
لم تكن هذه المقاومة بلا ثمن. تقول هانا إن الحفل تم اكتشافه لاحقًا، لكنها حصلت على جواز سفر بديل وغادرت إيران بسرعة قبل الاستجوابات.
نساء أخريات مثل زارا إسماعيلي وهيفا سيفي زاده سلكن طرقًا مشابهة. بعضهن غنّين في حفلات سرية وعروض شوارع، وبعضهن نشرن فيديوهات غنائية على الإنترنت، بينما اختارت أخريات الهجرة.
أثنت هانا على هذا التمرد الجماعي وتقول إنه في السنوات الأخيرة، تم كسر العديد من الحواجز والمحرمات في غناء النساء، والآن سواء بقيت الفتيات في إيران أو هاجرن، فقد فعلن ما يرغبن به.
هذه المغنية تعتقد أن هذا النضال يشبه موجة تزداد قوة كل لحظة، لأن جيلًا جديدًا وغاضبًا يظهر ولا يخضع لأي شكل من أشكال السلطة.
بعد تشكيل حركة "المرأة، الحياة، الحرية" في عام 2022، أصبحت هذه المقاومة أكثر وضوحًا؛ نساء لم يرفعن الحجاب الإجباري فقط، بل قررن كسر الصمت المفروض على أصواتهن.
التعامل القضائي: الثمن الباهظ للغناء
جهود النساء للغناء في الأماكن العامة أو نشر أصواتهن على وسائل التواصل الاجتماعي غالبًا ما كانت تواجه برد فعل عنيف من المؤسسات الأمنية والقضائية.
والنظام الإيراني يراقب هذا الحظر باستخدام أدوات مختلفة بما في ذلك وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، والإذاعة والتلفزيون، والمؤسسات الأمنية.
تقول هانا إن أول تجربة لها مع المحكمة كانت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 بعد أداء مسرحية "أغان قديمة"، بعد هذا التعامل القضائي، زادت مشاكلها.
في يوليو (تموز) 2023، غنت في حفل عيد ميلاد عباس كيارستمي الـ83 دون حجاب إجباري، "وأدى ذلك إلى تضخم ملفها القضائي وزيادة وتيرة استجواباتها. هذه الضغوط المتصاعدة هي ما دفعها في النهاية إلى مغادرة البلاد".
يذكر أن الحالات المشابهة لها ليست قليلة. ففي الأشهر والسنوات الماضية، تم استدعاء وتهديد وحتى اعتقال العديد من المغنيات مثل نكار معظم، وبيتا رسولي، وبيتا حاجي صادقيان بسبب عروض غير رسمية أو نشر فيديوهات على الإنترنت.
إن أسماء وهويات العديد من هؤلاء النساء غير معروفة. مثل أربع مغنيات "دي جي" في مدينة ميناب، اللواتي تم اعتقالهن في يوليو 2022، قبل شهرين من اندلاع الاحتجاجات الشعبية، بتهمة الغناء في الأعراس.
هذه الإجراءات تظهر أن حظر غناء النساء ليس مجرد قانون على الورق، بل يتم تنفيذه بقوة باستخدام أدوات قضائية وأمنية. قمع يهدف، وفقًا لهانا، إلى "إسكات النساء الإيرانيات".
اتساع غناء النساء: عالم غير مرئي
أكثر من أربعة عقود من القمع لم تحد فقط من حضور النساء في المجال العام للموسيقى، بل أثرت أيضًا على جودة وأبعاد غنائهن الفني.
تقول هانا إن المغنيات لا يزلن يفتقرن إلى ثقة الرجال، ولا يزلن يشعرن بالخوف أثناء الغناء، ولا تزال "حناجرهن غير محررة".
لكنها تشير أيضًا إلى نقطة مشجعة: "على الرغم من هذه المشاكل، تنوع أصوات النساء مذهل، وكل امرأة تغني لها صوتها الخاص. إذا تم رفع الحظر، سنفاجأ بمجموعة كبيرة من الأصوات التي لن نمل من سماعها أبدًا".
وتلخص هانا الغناء التقليدي للرجال بإيران في نماذج محدودة: "إما صوت أستاذ شجريان أو بنان. لكن أصوات النساء متنوعة بشكل كبير".
هذا التنوع هو إمكانية تم كبحها تحت ظل الحظر، لكنها لم تختف أبدًا.
الهجرة: الحرية في المنفى
الهجرة بالنسبة لهانا هي نقطة تحول. تصف لحظة مغادرتها بأنها لم تصدق أن هذا ممكن حتى عبرت بوابة حرس الثورة في المطار. في الطائرة، كانت تشاهد الأرض تحت قدميها، لأنها لم تكن تعرف متى يمكنها العودة إلى هذه الأرض.
ومع ذلك، تقول هانا إن هذه الحرية كانت مصحوبة بالحنين: "في إسطنبول، شعرت بلحظات قاتلة من الحنين إلى إيران. لكن في ذروة الحزن، كان هناك نور يضيء قلبي، لأنني الآن أستطيع أن أفعل ما أريده بحرية".
هذه التجربة مشتركة بين العديد من المغنيات اللواتي اضطررن إلى ترك وطنهن لتحقيق أحلامهن. مثل سارا نائيني، وسوغند، ودريا دادور، اللواتي سلكن طريق مغنيات سابقات مثل هايده، مهستي، وغوغوش، ليتمكنّ من الغناء في بيئة حرة.
لكن هانا تؤكد أن النضال داخل وخارج إيران ذو أهمية: "في كلتا الحالتين، نواصل إفشال محاولات النظام بإسكات أصواتنا".
صوت لا يُسكت
لا شك أن حظر غناء النساء، مثل "الحجاب الإجباري" وأشكال القمع الأخرى، هو جزء من الحمض النووي للنظام الإيراني.
وحكومة إيران، على عكس العديد من دول المنطقة الأخرى، ترى أي تغيير في وضع النساء كتهديد لبقائها. هذا الحظر ليس له جذور فقط في الأحكام الشرعية والتفسيرات الفقهية، بل أصبح أداة سياسية للسيطرة على النساء، لكن مقاومة النساء تحدت هذا الهيكل.
تقول هانا: "قبل 20 عامًا، قال لي صديق: هانا، أنت مثل آلة موسيقية، حتى عندما تصطدمين بالجدار، تعودين وتستمرين. في كل هذه السنوات، اصطدمت بالجدار مرات عديدة، لكنني لم أتوقف".
وعلى الرغم من كل هذا القمع، تواصل النساء الإيرانيات الغناء، وأصواتهن تُسمع في المنازل، وفي الحفلات السرية، وفي الفيديوهات على الإنترنت، وفي المهجر، والآن أكثر من أي وقت مضى، بشكل شجاع في المجال العام.
قصة هانا، وبرستو، وزارا، وهيوا، والعديدات الأخريات تظهر أن القمع، رغم أنه قد يحد من الوجود الجسدي للنساء، فإنه غير قادر على إسكات أصواتهن.