تظهر الأحداث، التي شهدتها إيران، خلال العامين الماضيين، أن النظام الإيراني، استخدم أساليب قمعية متعددة لقمع المحتجين وتهميش مطالب الشعب، عقب مقتل مهسا جينا أميني، واندلاع انتفاضة "المرأة، الحياة، الحرية"، كجزء من استراتيجية النظام للحفاظ على بقائه والسيطرة على المجتمع.

وحاولت الأجهزة الأمنية والقضائية للنظام الإيراني السيطرة على رواية مقتل مهسا جينا أميني، الفتاة الكردية البالغة من العمر 22 عامًا، والتي أخبرت رجال الشرطة أثناء احتجازها في طهران: "أنا غريبة هنا، دعوني أذهب"، لكنهم سلبوها حياتها.

وخرج الناس الغاضبون إلى الشوارع احتجاجًا على أكثر من أربعة عقود من سياسات النظام الإيراني، وكان غضبهم نابعًا من القتل الوحشي لهذه الفتاة على أيدي الشرطة، التي تجاهلت توسلاتها.
وجاءت هذه الانتفاضة الكبيرة في وقت كان فيه الإيرانيون قد شهدوا احتجاجات أعوام: 2017، 2018 و2019، وتذكروا القمع الوحشي، الذي تعرضوا له من قبل النظام.

وردّ النظام الإيراني على احتجاجاتهم بشكل علني أمام الكاميرات بإطلاق الرصاص الحي، وقنابل الغاز المسيل للدموع، والضرب بالهراوات، ومنذ الأيام الأولى، لجأ النظام إلى الاعتقالات الجماعية وتهديد المحتجين بالإعدام لمحاولة ردعهم عن الاستمرار في الشوارع.

انتهاكات حقوق الإنسان في انتفاضة "المرأة.. الحياة.. الحرية"
يستعرض هذا التقرير أبعاد انتهاكات حقوق الإنسان في انتفاضة "المرأة، الحياة، الحرية"، ويجيب عن سؤال: كيف غيّر النظام الإيراني أساليبه القمعية بعد بدء الانتفاضة؟ وما هو الدور الذي لعبته الأجهزة القضائية، والأمنية، والشرطية في ذلك؟

الضغوط القضائية والأمنية ودور قوى القمع
شملت الأساليب القمعية، التي اتبعتها الأجهزة الأمنية والشرطية: الاعتقالات، والاحتجازات التعسفية، وعدم التواصل مع الأسر، والتعذيب النفسي والجسدي، والقتل في مراكز الاحتجاز، والاختفاء القسري، وتوفير ظروف الموت بعد الإفراج، وإصدار أحكام الإعدام القاسية، والسجن، والنفي والغرامات المالية، والفصل من العمل، والحرمان من التعليم، بالإضافة إلى إصدار أوامر العفو الشكلية والتقليل من دور النقابات في توسيع نطاق الاحتجاجات.

كما تم فصل الطلاب وأساتذة الجامعات والمعلمين، الذين شاركوا في الاحتجاجات أو منعهم من التدريس، أما الطلاب المحتجون فقد تعرضوا للتسمم عمدًا، والتهديد بالفصل والتعليق من الدراسة.

ورغم انتشار التسمم العمدي للطالبات في عدة مدن إيرانية في مارس (آذار) 2023، سعت السلطات القضائية والأمنية إلى إنكار هذه الأحداث بشكل متكرر، وفي النهاية، لم يُحاكم أي شخص على هذه الجرائم، لكن بعض النشطاء المدنيين والنقابيين، مثل محمد حبيبي وضياء نبوي وهستي أميري، تم الحكم عليهم بالسجن؛ بسبب احتجاجهم على هذه الانتهاكات.

الاختراق والتلاعب في صفوف المحتجين
لجأت السلطات إلى اختراق الجماعات، التي كانت تنظم الاحتجاجات، وصناعة قادة وأبطال زائفين، من أجل تشتيت المطالب الشعبية، كما عملت على خلق جو من اليأس بين المحتجين وتشويه سمعة النشطاء العماليين والمعلمين وغيرهم من الشخصيات البارزة.

واستمرت الأجهزة الشرطية، خلال العامين الماضيين، في قمع الاحتجاجات بطرق مختلفة، مثل استخدام العنف ضد المحتجين في الشوارع وتدمير الممتلكات العامة، كما حاولت الحكومة نشر الأخبار الكاذبة وبث الاعترافات القسرية في وسائل الإعلام الحكومية؛ بهدف ربط الاحتجاجات بجماعات سياسية محددة لثني الناس عن الاستمرار في الشوارع.

وكان هناك دور ملحوظ لبعض الأفراد والجماعات، التي تبدو معارضة لسياسات النظام. هؤلاء حاولوا، من خلال أساليب مختلفة، تقليل نطاق الاحتجاجات من مستوى السعي لإسقاط النظام إلى مجرد الاحتجاج على تصرفات معينة من الشرطة. ومع ذلك، كان المحتجون في الشوارع واضحين في شعاراتهم التي استهدفت النظام بأكمله، مستخدمين مصطلحات مثل "انتفاضة" و"ثورة" إلى جانب شعار "المرأة، الحياة، الحرية".

القمع أكثر علنية
استهدفت القوات الأمنية، والشرطة، والعناصر المدنية التابعين للأمن الإيراني المتظاهرين بإطلاق الرصاص الحي بشكل مباشر، مما أسفر عن مقتل العديد منهم، وأصيب عدد كبير من المحتجين، جراء إطلاق النار من بنادق الرش إلى أجزاء مختلفة من أجسادهم، ما تسبب في فقدان البصر أو الإعاقة.

وتعرض المحتجون أيضًا للضرب بالهراوات والصعق الكهربائي، كما هاجمت القوات المتظاهرين بسيارات الشرطة في عدة مدن، وقُتل عدد من المحتجين نتيجة استنشاق الغاز المسيل للدموع، الذي أُطلق مباشرة على رؤوسهم في الشوارع، ولم يهتم النظام بوجود الكاميرات، التي وثّقت هذه الجرائم.

ووفقًا لإحصاءات منظمات حقوق الإنسان، قتلت السلطات الإيرانية أكثر من 550 متظاهرًا خلال انتفاضة "المرأة، الحياة، الحرية"، وفقد مئات آخرون بصرهم. كما تُوفيّ العشرات بشكل غامض بعد الإفراج عنهم من السجون بفترة قصيرة، وعانى آخرون الإعاقة أو الشلل نتيجة العنف، الذي مارسته قوات النظام.

الإعدام.. أداة للقمع والترهيب
زاد تنفيذ أحكام الإعدام في إيران، خلال العامين الماضيين؛ حيث نُفذ ما لا يقل عن 10 إعدامات بحق محتجين، بالإضافة إلى إعدام أكثر من 50 سجينًا سياسيًا آخرين، كما صدر عدد كبير من أحكام الإعدام بحق معتقلين آخرين، وبعضهم ما زالت قضاياهم قيد التحقيق مع اتهامات قد تؤدي إلى عقوبة الإعدام.

ومنذ بداية العام الميلادي 2023، أُعدم أكثر من 400 شخص في سجون مختلفة بإيران، وتُظهر الإحصاءات أن عدد الإعدامات في العام 2023 وصل إلى 853، مقارنة بـ 576 في العام 2022، ما يمثل زيادة بنسبة 48 بالمائة.

وفي تقريرها السنوي الأخير، أشارت منظمة العفو الدولية إلى أن إيران كانت مسؤولة عن نحو 75 بالمائة من جميع الإعدامات المسجلة في العالم خلال العام 2023.

ويظهر هذا الوضع بوضوح أن النظام الإيراني يستخدم الإعدامات كأداة لنشر الرعب في المجتمع ولثني الناس عن النزول إلى الشوارع. كما أصدر النظام أحكامًا بالإعدام على نساء سياسيات، وهو ما لم يحدث منذ 15 عامًا، وقام بقتل الأفراد بطريقة تسمح له بالدفاع عن نفسه أمام الرأي العام المحلي والدولي.

أحكام السجن ومحاولات "التوبة"
وفقًا لمنظمات حقوق الإنسان، تم اعتقال أكثر من 100 ألف شخص خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الانتفاضة الثورية في 2022، وقد أُطلق سراح عدد كبير منهم، بعد أيام من الاحتجاز والتعذيب، بشرط توقيع تعهدات أو دفع كفالات، وفي المقابل، تم تحويل قضايا عدد آخر منهم إلى المحاكم لاستكمال التحقيقات.

وفي مارس 2023، أعلن رئيس القضاء الإيراني، غلام حسين محسني، أن 80 ألف سجين، بينهم 22 ألفًا من معتقلي احتجاجات 2022، قد تم العفو عنهم.، إلا أن العديد من النشطاء الحقوقيين والسياسيين وصفوا هذا العفو بأنه مشروع دعائي.

ونشرت صحيفة "اعتماد"، في إبريل (نيسان) 2023، تقريرًا أكدت فيه أن مزاعم "العفو الواسع" من قِبل النظام غير حقيقية، وانتقدت استمرار محاكمة المعتقلين.

وهذا السلوك أظهر بوضوح أن السلطات القضائية والأمنية تستخدم سياسة "التوبة" كوسيلة للضغط على المعتقلين السياسيين؛ إذ تم إطلاق سراح من أبدوا ندمًا، أو أعلنوا ولاءهم للنظام، بينما ظل آخرون في السجن؛ لأنهم رفضوا الانصياع لهذه الضغوط.

استمرار القمع رغم مرور عامين
بعد عامين من اندلاع انتفاضة "المرأة، الحياة، الحرية"، ما زال مئات الأشخاص يقبعون في السجون، بينما يواجه آخرون تهمًا قد تؤدي إلى أحكام قاسية، بالإضافة إلى ذلك، تم اعتقال عدد من عائلات الضحايا الذين رفعوا أصواتهم بالعدالة.

وإلى جانب القمع الجسدي، لجأ النظام إلى استراتيجيات جديدة لإخفاء عمليات القمع من الرأي العام الدولي، ورغم هذا التغيير في الأساليب، فإن الهدف الأساسي للنظام الإيراني يظل نفسه: فرض المزيد من القمع والترهيب للحفاظ على سلطته.

مع مرور الوقت، يبدو أن النظام يغيّر تكتيكاته ليتماشى مع التغيرات الداخلية والخارجية، ولكنه يظل ملتزمًا بفرض سيطرته على المجتمع الإيراني من خلال القمع المتواصل.

القتل في الاحتجاز
استمر قمع المواطنين المعترضين، خلال العامين الماضيين، إلى حد بلغ فيه النظام الإيراني قتل عدد من الأشخاص المجهولين داخل مراكز الاحتجاز عن طريق الضرب، وإطلاق النار، أو التعذيب باستخدام العقاقير.

وبعد انكشاف هذه الجرائم المروعة، سعت الأجهزة التابعة للنظام إلى التظاهر بأنها تتخذ إجراءات لمعاقبة الجناة، محاولة إظهار مسؤولية زائفة تجاه المواطنين.
وتبنت الجهات نفسها، التي قامت بضرب وقتل مهسا أميني في الحجز، وغيرها من الفتيات في الأماكن العامة؛ بحجة رفض الحجاب الإجباري، لاحقًا دور المسؤول والمحقق في هذه القضايا.
وفي بعض الحالات، زعمت هذه الجهات أن أسباب وفاة المحتجزين كانت مختلفة، وأجبرت عائلات الضحايا على الصمت أو الإدلاء باعترافات قسرية.

ومن بين هؤلاء الضحايا، الفتاة الشابة أرميتا غراوند، التي فقدت حياتها، وأرزو بدري التي أصيبت، ومحمد مير موسوي هو أيضًا من أحدث ضحايا التعذيب في إيران.

مسار القمع
عقب هذه الأحداث، وبعدما أدخل الرعب في قلوب المواطنين بهذه الأساليب، يلجأ النظام في بعض الحالات إلى متابعة الموضوع شكليًا، حتى لو أفضت التحقيقات إلى تحديد الجاني، وغالبًا ما ينتهي الأمر بعدم بمعاقبته.

وفي ظل هذه الظروف، ترى المجتمع المضطهد يعتبر هذه التصرفات بمثابة إنذار من النظام، مفاده أن أي محاولة احتجاجية أخرى ستُقابل بالموت.
اليوم، يبدو أن النظام الفاشي في إيران قد اكتسب قدرة جديدة، حيث يمكنه تنفيذ عمليات القمع بطريقة لا تضر كثيرًا بسمعته على الصعيد الدولي.

ورغم أن أساليب القمع تغيرت جزئيًا، فإن الطبيعة القمعية وأجواء الرعب، التي يسعى النظام لفرضها لا تزال قائمة ولم تتغير.

وبعد مرور عامين على بدء الانتفاضة الشعبية، يبدو أن النظام الإيراني قد أجرى تعديلات على سياساته الداخلية، واضعًا في الاعتبار وضعه في المنطقة وعلى الساحة الدولية، وهذه التعديلات أدت إلى تغييرات في أسلوب القمع، دون المساس بجوهره.

ويجب أيضًا أن نأخذ في الحسبان تغير نهج المرشد الإيراني، علي خامنئي، واعتماده على التيار الإصلاحي الذي يفتقد للشعبية، مع اختيار مسعود پزشكيان في منصب الرئاسة، هذه السياسة تحمل رسالة واضحة إلى المجتمع المعارض للنظام: "نقتل وننكر".

وفي هذا السياق، استمرت موجة القمع خلال سبتمبر هذا العام بالتزامن مع الذكرى السنوية الثانية لمقتل مهسا أميني على يد النظام؛ حيث شنت الأجهزة الأمنية والقضائية حملة واسعة ضد المواطنين المعترضين وعائلات الضحايا.

ورغم الأجواء الأمنية المشددة، جرت مراسم إحياء الذكرى السنوية الثانية لبعض ضحايا الانتفاضة في مدن مختلفة، خلال الأيام الأخيرة من شهر سبتمبر الجاري.

مزيد من الأخبار